تجارب الطلبة - عز الدين عاطف يكتب عن تجربته الدراسية في لندن
2020-11-09
أنا عزّالدين، يسرّني أن أسرد لكم في هذا المقال بعضًا من تجربتي المحوريّة في دراسة درجة الماجستير في جامعة كينجز (King’s College London)، تخصص هندسة الروبوتات (Robotics).
ابتدأت رحلتي في هذه التجربة حين كنت مساعد بحث وتدريس في قسم الهندسة الميكانيكيّة والميكاترونكس في جامعة بيرزيت، حيث قررّت حينها أنّ الوقت قد حان للانتقال للخطوة التاليّة في مساريّ الأكاديميّ لتحصيل درجة الماجستير.
كانت رغبتي في خوض تجربة تعليم أوروبيّة وتحديدًا بريطانيّة كافيّة لشحذ همتّي للبحث عن هذه الفرص وفي المجال الذيّ أحبّه، هندسة الروبوتات، حيث بحثت عن أقوى الجامعات البريطانيّة في هذا التخصص، وكنت أستهدف أفضل عشرة جامعات، وهنا، اسمحوا لي أن أشجعكم للتوجّه نحو الأفضل، والسعيّ نحوه دون الخوف من الرفض، Don`t be afraid to shoot high
بعد أن قدمت للجامعات المستهدفة، استثمرت فترة انتظار الردّ بالبحث عن المنح الدراسيّة الداعمة والتقديم لها، حيث إنّ تغطية تكاليف دراسات ما بعد التخرّج باهظة، إلّا أنّه ولحسن الحظ، هناك بعض المنح الداعمة المعينة للعديد من الطلبة.
كانت رسائل القبول من الجامعات القويّة تثلج صدريّ وتنمّي طموحيّ للسعي لما هو أفضل دائمًا، لا سيّما حين استلمت قبول كينجز، التيّ تقبل ما لا يتجاوز عن ثلاثين طالب لكلّ سنة، وعلى الرغم من حصولي على قبولات من جامعات قويّة كـ امبريال ((Imperial Collage London، إلّا أننّي اخترت كينجز(King`s (Collage London، لعدة أسباب، منها، ترتيبها السادس بين الجامعات البريطانيّة، وتميّز برنامجها الماجستير الذيّ يدمج بين مساقات عديدة وحديثة بين علم الذكاء الاصطناعيّ وعلم الروبوتات، وكانت هذه الخطوة العمليّة الأولى في هذه الرحلة، والتّي استطعت من خلالها معرفة أنّ القبولات تُعطى لمن يوضح قدرته في اجتياز التخصصّ بتميّز مستندًا بذلك على خبرته وطموحه ونشاطاته المنهجيّة واللا منهجيّة الموضّح في رسالة الحافز، علاوة على العلامات الجيّدة الداعمة.
في مرحلة ما بعد القبول، صار التحديّ الحصول على منحة، وهنا، قد وفقنّي الله بالحصول على منحة هيسبال HESPAL السخيّة والمدعومة من المجلس الثقافيّ البريطانيّ، حيث تكفلّت بتغطيّة الرسوم الجامعيّة ومصاريف المعيشة. في هذه المرحلة اكتملت وسائلي لتحقيق الهدف، وابتدأت رحلتي مع بريطانيا.
في شهر أيلول عام 2018، كان الدخول الأوّل لبريطانيا، والذيّ كان أشبه بحلم في لحظات أو بوجودي في ساحة فيلم بريطانيّ أشاهده على احدى قنوات التلفاز. في البداية، كانت الدهشة تتملكنّي من كلّ التفاصيل المحيطة، لا سيّما، حين أسمع حوار باللهجة البريطانيّة، حيث أنصت جيّدًا وأستمتع بها، وإذا كان الحوار بين الآباء والأبناء في الباصات العامّة، كنت أسرح في جماليات الحوار والكلمات.
في بداية الرحلة، عقدت هيسبال اجتماعًا تعريفيًّا بأعضائها، حينها عرفت أحد المسؤولين في المنحة عن انضمامي لكينجز، فقالت محذّرة: "دير بالك يا عزّالدين، طلابنا بشكو من كينجز لأنها كثير صعبة"، وأيدها هنا طالب سابق خاض التجربة ذاتها في المنحة والجامعة.
لم تكن هذه الكلمات عاديّة، وإنمّا كانت كافيّة لشحذيّ أكثر بأن أكون علامة فارقة مميّزة وأن أستمتع في فعل ذلك بما يرضيني بتحقيق مرتبة عاليّة في تخصصيّ، رغم أنّي شككت قليلًا في إمكانيّة تحقيق ذلك، استنادًا لوجود العديد من الطلاب الدولييّن، إلّا أننّي حسمت أمريّ بالمحاولة على الأقل والاستمتاع بها.
كنت محظوظًا بأن جاءت محاضراتي موزعة على أكثر مبنيين مطلين على نهر التايمز من بين مبانيها الأربعة. أذكر في يوميّ الأوّل أنّي ذهبت لقسم الهندسة الواقع في مبنى Bush House، والذيَ كان لافتًا بتاريخه وأعمدته الرخاميّة الضخمة الدالّة على أهميته، فقد كان هذا المبنى سابقًا مقرًّا لإذاعة البي بي سي BBC، وفيه أقيمت العديد من الخطابات المهمّة لأشخاص مؤثرين في أوقات حرجة صنعت التاريخ، مثل خطاب رئيس الوزراء البريطانيّ تشرشل في الحرب العالميّة الثانيّة. في الأسبوع الأول، اكتشفت أبرز مرافق الجامعة وخدماتها من خلال الأسبوع التنويريّ الذّي تنظمه لطلابها الجدد، كما تضمن هذا الأسبوع تعريفنا على الحضارة البريطانيّة وعناصر العيش في لندن برفاهيّة وكيفيّة الاستمتاع بوقتنا خلال الدراسة. قد شكل هذا الأسبوع قاعدة أساسيّة استطعت البحث في تفاصيل أكثر من خلاله والاندماج في المحيط بقوّة أكبر.
كانت تجربة الدراسة في جامعة بريطانيّة متقدمة ذات تسهيلات تتناسب مع احتياجات الطلاب، حيث مقاعد القاعات مريحة وواسعة ومزوّدة بنظام صوت وصورة متطوّر تتيح لنا مشاهدة المحاضرة في أيّ وقت ومكان، وقد ساعدني هذا كثيرًا حين كنت أتجوّل في المدن والقرى البريطانيّة وأتابع محاضراتي أونلاين، وكانت المختبرات مميّزة بأجهزة الحواسيب ذات الشاشات عاليّة الجودة والكبيرة، التيّ تصلح لمشاهدة مسلسل House of Cards وكانت الخدمات المكتبيّة لافتة بنظام استعارتها الإلكترونيّ.
أمّا عن الخدمات الاستشاريّة الخاصّة بالطلاب الدوليين، فإنّ الجامعة توفّر كادر متخصص للمساعدة برحب ولاحتضان الطلاب ودعمهم نحو التفوّق. وعلى الرغم من المؤهلات القويّة للمحاضرين، إلّا إنّ هذا لا يرتبط بنظرة تكبريّة، وإنمّا كانوا أصحاب ابتسامة وودّ للطلاب، ومن ذلك طلب منّي مشرف مشروعيّ دكتور سبارتلنج، أن أناديه باسمه الأوّل، مايك. هنا أستحضر مشروع تخرجي، والذّي كان في فكري قبل طرح مواضيع مشاريع التخرّج بفترة، حيث قمت بالبحث في الملفات التعريفيّة لكلّ محاضريّ تخصصيّ وتوجهّت لطرح فكرتي لمن اعتقدت أنّه الأكثر قدرة على دعميّ في هذا المجال، وهنا رحّب د.سبارتلنج بالفكرة وكان المشرف لي في المشروع الذّي سجلته لاحقًا كبراءة اختراع.
لقد علمتني تجربتي في مشروع التخرّج أن أرنو إلى البعيد وأناظر المستقبل ومخططاته، فحين كنت قد بدأت مشروعيّ، كان لا يزال زملائي يخوضون مرحلة اختيار مشروع من المشاريع المقترحة من قبل الجامعة ويبحثون عن مشرفين مناسبين. ونظرًا للصعوبات المتوقعة التّي قد يمّر فيها الطلاب، تقوم الجامعة بتعيين أحد محاضري الجامعة كدليل Personal Tutorليقوم بمتابعة الأداء الأكاديميّ وحلّ المشاكل الخاصّة بالطالب، والحمدللّه أنّي لم أحتج اللجوء إليه طيلة فترة دراستي، معتمدًا على دراسة اختياراتيّ وبذل المجهود اللازم لاستحقاق التفوّق بتوفيق الله.
أقمت خلال هذه المرحلة في سكن يتبع لمستشفى الجامعة، ويدعي Hambleden Court، حيث كان قريبًا من فرع كبير لسينبيري Sainsbury’s Superstore، وهي سلسلة محلات تحتويّ على كلّ شيء تقريبًا تنتشر في أنحاء أوروبا، وكانت المنطقة محاطة بمساحات خضراء أركض فيها للترويح عن نفسيّ خلال الامتحانات.
كانت البداية تحتاج التركيز والحذر، إلّا أننّي بعد شهرين كنت قد انخرطت بقوّة في المحيط وأصبحت من قد يرشد تائه يسأل عن مكان تاه في الوصول إليه في الشارع، وحين استقررت من هذه الناحيّة، بدأت بضبط العنصر السحريّ للنجاح My Operation X""، والمتجسّد في تنظيم الوقت!
إننّي لا أذكره هنا للكلاشيه أو التنظير، وإنمّا لألفت الأنظار إلى هذه الخطوة لما فيها من فوائد بهيّة وسخيّة، وعن نفسي، كنت أمارس الرياضة في الخامسة صباحًا وأذهب للجامعة في التاسعة صباحًا حتى الثانيّة عشر، ثمّ أخرج لأكتشف لندن حتّى التعب، وحين أعود لسكني، أشاهد محاضراتي المتبقيّة أونلاين من خلال موقع الجامعة الإلكترونيّ، وفي الوقت الذيّ لا أجول فيه بين الأماكن لاكتشافها، كنت أعلّم الأجانب اللغة العربيّة، وكنت أسعى لاختيار متحدثيّ اللغة الألمانيّة والإسبانية طمعًا في أن يعلّم كل منّا الآخر.
كانت المجازفة الأقوى لي خلال هذه المرحلة في مشروع تخرجيّ، حيث قررّت التجوّل في أوروبا حينها، مصطحبًا معي حاسوبيّ المتنقل وخيمتي في رحلة شهرين زرت فيها أكثر من خمس عشرة مدينة في خمسة دول أوروبيّة، فيها كنت أختار المكتبات صباحًا للعمل على مشروعيّ، ثمّ أذهب وأكتشف المكان، وحين انتهيت من رسالتي في هذه الفترة، عدت لندن للمناقشة.
انتهت الرحلة في شهر أيلول عام 2019، بتحقيق جائزة أفضل أكاديميّ في دفعتيّ وسجّل هذا الخبر في العديد من الصحف والمجلات في بريطانيا والوطن.
كانت هذه التجربة غنيّة بالكثير على الأصعدة المختلفة، وقد يسرّها الله بالصحبة الداعمّة، تحديدًا أصدقائي من المغتربين من غزّة الذين كانوا أهلًا وعونًا.
وأخيرًا أختتم حديثي بالحثّ على التجارب الجديدة، دون خوف وبقلب قويّ، هناك دائمًا شيء جديد نتعلّمه ونكتشفه، واسعَ دائمًا لتتبع شغفك وتشكيله بما يعينك على التطّور والنموّ في جوانب الحياة المختلفة، ولا تخشى المجازفات، بل استمتع بها، الحياة واحدة وسعينا فيها هو انعكاس ذواتنا وتكوينها.